فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنَى عليه قوله ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك‏.‏ فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم‏.‏ وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان، وأنكروا إعادته بعد الموت، واستُدل عليهم هنالك بقياس المساواة، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمناً تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم‏.‏ فقوله ‏{‏أهون‏}‏ اسم تفضيل، وموقعه موقع الكلام الموجَّه، فظاهره أن ‏{‏أهون‏}‏ مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول، وهذا في معنى قوله تعالى ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ومراده‏:‏ أن إعادة الخلق مرة ثانية مُساوية لبدْء الخلق في تعلق القدرة الإلهية، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله ‏{‏قال ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يَدْعُونَني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وللإشارة إلى أن قوله ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله ‏{‏وله المثل الأعلى في السماوات والأرض،‏}‏ أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم‏.‏

و ‏{‏الأعلى‏:‏ معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة‏.‏ قال حجة الإسلام في الإحياء‏}‏‏:‏ «لا طاقة للبشر أن ينفُذوا غَوْر الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضَوءَ الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه ورأوها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نَزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصواتتٍ يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها» اه‏.‏

وقوله ‏{‏في السموات والأرض‏}‏ صفة للمثل أو حال منه، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقراً في السماوات والأرض، أي في كائنات السماوات والأرض، فالمراد‏:‏ أهلها، على حدّ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشؤون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطِّلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى‏.‏ ومن جملة المثَل الأعلى عزته وحكمته تعالى؛ فخُصّا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته؛ فالعزة تقتضي الغِنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة‏.‏ والحكمة تقتضي عموم العلم‏.‏ ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أُتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عَقِبَ دليل بدئه بضرببِ مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى ‏{‏يُخرج الحي من الميت‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏ وقوله ‏{‏ويحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏ لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين‏:‏ أصل الوحدانية، وأصل البعث، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل‏.‏ والخطاب للمشركين‏.‏

وضرب المثل‏:‏ إيقاعه ووضعه، وعليه فانتصاب ‏{‏مثلاً‏}‏ على المفعول به، أو يراد بضربه جعله ضرباً، أي مِثْلاً ونظيراً، وعليه فانتصاب ‏{‏مثلاً‏}‏ على المفعولية المطلقة لأن ‏{‏مَثَلاً‏}‏ حينئذ يرادف ضرباً مصدر ضربَ بهذا المعنى‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏ واللام في لكم‏}‏ لام التعليل، أي ضرب مثلاً لأجلكم، أي لأجل إفهامكم‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏مِن أنفسكم‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏ضرَب‏}‏ أي جعل لكم مثلاً منتزعاً من أنفسكم‏.‏ والأنفس هنا جنس الناس كقوله ‏{‏فسلِّموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ أي مثَلاً من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيداً ومن لا عبيد له‏.‏ فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثَل‏.‏ والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله ‏{‏فيما رزقناكم‏}‏ إلى آخره، أي من شركاء لهم هذا الشأن‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏من ما ملكت أيمانكم‏}‏ تبعيضية، و‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏مِن شركاء‏}‏ زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري‏.‏ فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام‏.‏

والشركاء‏:‏ جمع شريك، وهو المشارك في المال لقوله ‏{‏فيما رزقناكم،‏}‏ والفاء للتفريع على الشركة، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء‏.‏

وجملة ‏{‏تخافونهم‏}‏ في موضع الحال من ضمير الفاعل في ‏{‏سواء‏.‏‏}‏ والخوف‏:‏ انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله ‏{‏كخيفتكم أنفسكم،‏}‏ أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم‏.‏

والأنفس الثاني بمعنى‏:‏ أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين‏.‏

وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك‏.‏ هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم، وهذا التشبيه وإن كان منصرفاً لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيداً، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفاً يأبَوْنه‏.‏

فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهةُ منفيةً منكَرة، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود ليُنتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازاً لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة‏.‏ ولذلك عقب بجملة ‏{‏كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون،‏}‏ أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلاً كهذا التفصيل وضوحاً بيناً، وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 24‏]‏ استئناف ابتدائي‏.‏ والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم، فيزدادَ المؤمنون يقيناً ويؤمنَ الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة‏.‏

وفي ذكر لفظ ‏{‏قوم‏}‏ وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏، وتقدمت له نظائر كثيرة‏.‏ والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله ‏{‏ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ إلى قوله ‏{‏يعقلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى ‏{‏وما يَعْقِلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ وقوله ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏كذلك‏}‏ تقدم نظيره في قوله تعالى ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله ‏{‏كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيُقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويَلِجُوا حظيرة الإيمان، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى‏.‏ فالتقدير‏:‏ فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم‏.‏

و ‏{‏الذين ظلموا‏:‏ المشركون إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزاً من التوغل في هواه لعلمه بفساده، وليس ما هنا مماثلاً لقوله تعالى ‏{‏ومن أضل مِمنّ اتبع هواه بغير هدىً من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏ في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبساً بمغايرة هدى الله‏.‏

والفاء في ‏{‏فَمَن يهدي‏}‏ للتفريع، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبداً‏.‏ و‏{‏مَن‏}‏ اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم، إذ التقدير‏:‏ لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرُهم ولا أنفسُهم، فإنهم من عموم ما صدق ‏{‏مَن يَهدي‏.‏

ومعنى من أضل الله‏:‏‏}‏ مَن قَدَّر له الضلال وطبع على قلبه، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بيّن‏.‏ ومعنى انتفاء هاديهم‏:‏ أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكاً‏.‏ ثم عطف على جملة نفي هداهم خبرٌ آخر عن حالهم وهو ‏{‏ما لهم من ناصرين‏}‏ ردّاً على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

الفاء فصيحة‏.‏ والتقدير‏:‏ إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين‏.‏ والأمر مستعمل في طلب الدوام‏.‏ والمقصود‏:‏ أن لا تهتم بإعراضهم، كقوله تعالى ‏{‏فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومن اتبعن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ وقوله ‏{‏فاستقم كما أمرت ومن تاب معك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ ‏(‏أي من آمن‏)‏ وقوله ‏{‏أدْعوا إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتّبعن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك، كما يؤذن به قوله بعده ‏{‏منيبين إليه واتقوه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 31‏]‏ بصيغة الجمع‏.‏

وإقامة الوجه‏:‏ تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يميناً ولا شمالاً‏.‏ وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، وهذا كقوله تعالى ‏{‏وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادْعُوه مخلصين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ وقوله حكاية عن إبراهيم ‏{‏إني وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ وقوله تعالى ‏{‏فقل أسلمتُ وجهي لله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏، أي أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره‏.‏

والتعريف في ‏{‏الدين‏}‏ للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام‏.‏ و‏{‏حنيفاً‏}‏ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في فعل ‏{‏أقم‏}‏ فيكون حالاً للنبي صلى الله عليه وسلم كما كان وصفاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى ‏{‏إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وهذا هو الأظهر في تفسيره‏.‏ ويجوز كونه حالاً من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية‏.‏

وحنيف‏:‏ صيغة مبالغة في الاتصاف بالحَنَف وهو الميْل، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق، أي عادلاً ومنقطعاً عن الشرك كقوله تعالى ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ وقد مضى في سورة البقرة ‏(‏135‏)‏‏.‏

وفطرة الله‏}‏ بدل من ‏{‏حنيفاً‏}‏ بدل اشتمال فهو في معنى الحال من ‏{‏الدين‏}‏ أيضاً وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة‏.‏ وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما‏:‏ التبرؤ من الإشراك، وموافقتُه الفطرة، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه‏.‏ ونظيره قوله تعالى ‏{‏ولم يجعل له عِوجاً قيّماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1، 2‏]‏ أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة، والإشراك تبديلٌ للفطرة‏.‏ والفطرة أصله اسم هيئة من الفَطْر وهو الخَلْق مثل الخِلقة كما بيّنه قوله ‏{‏التي فَطَرَ الناس عليها‏}‏ أي جَبَلَ الناسَ وخلقهم عليها، أي متمكنين منها‏.‏ فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكناً يشبه تمكن المعتلي على شيء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏، وحقيقة المعنى‏:‏ التي فطر الناس بها‏.‏

ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي مُعِدَّة ومُهَيِّئَة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه‏.‏ اه‏.‏

وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه‏:‏ بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية‏.‏

وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه ‏{‏النجاة‏}‏ فقال‏:‏ «ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهَدَ المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يَعرضَ على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلاً، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات‏.‏ فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديقَ بها‏:‏ إما شهادة الكل مثل‏:‏ أنَّ العدل جميل، وإما شهادة الأكثر؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم‏.‏ وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوَّلي عقلي ولا وهَمِيّ فإنها غير فطرية، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو الاستقراءُ الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقاً صِرفاً فلا يُفْطَن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق، اه‏.‏ فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي‏:‏ إما أمور فطرية أيضاً، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته‏.‏

وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة‏.‏ وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية»‏.‏ واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء‏.‏

إن المجتَمع الإنساني قد مُني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تُتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحَق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خيرَ دليل‏.‏ وكونُ الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله ‏{‏ذلك الدين القيّم‏.‏‏}‏ فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة‏.‏

وفي قوله ‏{‏التي فطر الناس عليها‏}‏ بيان لمعنى الإضافة في قوله ‏{‏فطرة الله‏}‏ وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء ‏"‏ أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و‏(‏تُحسون‏)‏ تدركون بالحس، أي حاسّة البصر‏.‏ فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعهما‏.‏ وفي «صحيح مسلم» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه‏:‏ ‏"‏ وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم أي غير مشركين وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ‏"‏

الحديث

وجملة ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ مبيِّنة لمعنى ‏{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏}‏ فهي جارية مجرى حال ثالثة من ‏{‏الدّين‏}‏ على تقدير رابط محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ لا تبديل لخلق الله فيه، أي في هذا الدين، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة‏:‏ زوجي كلَيْل تهامة لا حرَّ ولا قُرَّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل‏.‏

فمعنى ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك، قال تعالى عن الشيطان‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فَلُيغيِّرُنَّ خلقَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة‏.‏ فتكون ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ خبراً مستعملاً في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله ‏{‏لا تَقْتُلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة‏.‏ واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه‏.‏

و ‏{‏القيِّم‏:‏ وصف بوزن فَيْعِل مثل هيِّن وليِّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب‏.‏

والقيام‏:‏ حقيقته الانتصابُ ضد القعود والاضطجاع، ويطلق مجازاً على انتفاء الاعوجاج يقال‏:‏ عود مستقيم وقيم، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يجعل له عِوجاً قيماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1، 2‏]‏ وقال تعالى‏:‏ في سورة براءة ‏(‏36‏)‏‏.‏

ويطلق أيضاً على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى ‏{‏أفَمَنْ هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم‏:‏ قَيِّم‏.‏ ويطلق القيم على المهيمن والحافظ‏.‏ والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحاً ونسخاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ وتقدم في طالع سورة المائدة ‏(‏48‏)‏‏.‏ فهذا الدين به قوام أمر الأمة‏.‏ قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل‏:‏ يا معاذ ما قِوام هذه الأمة‏؟‏ قال‏:‏ الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر‏:‏ صدقت‏.‏ يريد معاذٌ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى ‏{‏مخلصين له الدين حنفاء‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والاستدراك في قوله ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ لدفع توهم واهِم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيِّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مُهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يَبلغهم على الوجه الصحيح؛ ففعل ‏{‏لا يعلمون‏}‏ غير متطلب مفعولاً بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة‏.‏

والمراد ب ‏{‏أكثر الناس‏}‏ المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهلُ الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود‏.‏

ومقابل ‏{‏أكثر الناس‏}‏ هم المؤمنون، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقُوا على أديانهم عناداً‏:‏ فهم يعلمون ويكابرون، أو تحيُّراً‏:‏ فهم في شك بين علم وجهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏مُنِيبِينَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏فَأقِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم‏.‏

والمنيب‏:‏ الملازم للطاعة‏.‏ ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة، والنوبة‏:‏ حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها‏:‏ فَعْلَة بصيغة المرة لأنها مرة من النَّوْب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال‏:‏ تناوبوا عمل كذا‏.‏ وفي حديث عمر‏:‏ «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً» الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهداً متكرراً، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم أوّاه مُنيب‏}‏ في سورة هود ‏(‏75‏)‏‏.‏ وفسّرت الإنابة أيضاً بالتوبة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ناب مرادف تاب، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية ‏{‏دعوا ربهم منيبين إليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والأمر الذي في قوله ‏{‏واتقوه وأقيموا الصلاة‏}‏ مستعمل في طلب الدوام‏.‏

و ‏{‏الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً‏}‏ هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة‏.‏ وإنما كررت ‏{‏مِن‏}‏ التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلاً من المشركين بدلاً مطابقاً أو بياناً، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تكون لنا عيداً لأولنا وءاخرنا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏ وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلاً أو بياناً ولهذا قال النحاة‏:‏ إن البدل على نية تكرار العامل‏.‏ وقال المحققون‏:‏ إن البدل معرب بالعامل المقدر، ومثله البيان وهما سيان‏.‏ وتقدم الكلام على معنى ‏{‏الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً‏}‏ في آخر سورة الأنعام ‏(‏159‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فرَّقوا‏}‏ بتشديد الرّاء‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي ‏{‏فارقوا دينهم‏}‏ بألف بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام‏.‏ ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادُهم منه، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعاً معه، وليس المراد الارتداد عن الإسلام‏.‏

والشيع‏:‏ جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع، أي توافق رأياً، وتقدم قوله تعالى ‏{‏ثم لَنَنْزِعَنَّ من كل شِيعة‏}‏ في سورة مريم ‏(‏69‏)‏‏.‏

والحزب‏:‏ الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة‏.‏ وما لديهم‏}‏ هو ما اتفقوا عليه‏.‏ والفرح‏:‏ الرضا والابتهاج‏.‏ وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعاً متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضاً ويذيق بعضهم بأس بعض‏.‏ وتقدم ‏{‏كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏53‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ أي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم‏.‏ فالمقصود من الجملة هو قوله‏:‏ ‏{‏ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون،‏}‏ فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر، بخلاف حال المؤمنين فإنهم إذا أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله‏.‏ ونُسِجَ الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ ‏{‏الناس‏}‏ من العموم وإدماجاً لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم‏.‏ فالتعريف في ‏{‏الناس‏}‏ للاستغراق‏.‏

والضُرّ، بضم الضاد‏:‏ سوء الحال في البدن أو العيش أو المال، وهذا نحو ما أصاب قريشاً من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف، وحتى أكلوا العظام والميتة، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية، فالشدة أقوى عليهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏ الآيات، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏منيبين‏}‏ حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وتقدم ‏{‏مُنيبين‏}‏ آنفاً‏.‏

والمس‏:‏ مستعار للإصابة‏.‏ وحقيقة المس‏:‏ أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله، وتقدم في قوله ‏{‏ليمسَنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ في العقود ‏(‏73‏)‏‏.‏ واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضُر بَلْهَ الضرّ الشديد‏.‏

والإذاقة‏:‏ مستعارة للإصابة أيضاً‏.‏ وحقيقتها‏:‏ إصابة المطعوم بطَرَف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقلّ من المضغ والبلع، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏لِيَذُوق وبال أمْره‏}‏ في سورة العقود ‏(‏95‏)‏، ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء‏}‏ في سورة يونس ‏(‏21‏)‏‏.‏ واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم‏.‏

والرحمة‏:‏ تخليصهم من الشدّة‏.‏ وثمّ‏}‏ للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم، وحَرْف المفاجأة ‏{‏إذا‏}‏ يفيد أيضاً أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم‏.‏

وضمير منه‏}‏ عائد إلى الله تعالى‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏أصابهم‏.‏‏}‏ و‏{‏رحمة‏}‏ فاعل ‏{‏أصابهم‏}‏ ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور‏.‏ وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لِيَكْفروا‏}‏ لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضياً إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏ليكفروا‏}‏ عائد إلى الفريق باعتبار معناه‏.‏

والإيتاء‏:‏ إعطاء النافع، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم‏.‏ ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله ‏{‏فتمتعوا‏}‏ توبيخاً لهم وإنذاراً، وجيء بفاء التفريع في قوله ‏{‏فتمتعوا‏}‏ لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق‏.‏ والأمر في ‏(‏تمتعوا‏)‏ مستعمل في التهديد والتوبيخ‏.‏ والتمتع‏:‏ الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي‏.‏

والفاء في ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ تفريع للإنذار على التوبيخ، وهو رشيق‏.‏ و‏(‏سوف تعلمون‏)‏ إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئاً عظيماً، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يُعلم، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم‏.‏ وهذا إشارة إلى ما سيصابون به يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود، وكانت الغاية واحدة، فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ والبطشة الكبرى‏:‏ بطشة يوم بدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أمْ‏}‏ منقطعة، فهي مثل ‏(‏بَل‏)‏ للإضراب هو إضراب انتقالي‏.‏ وإذ كان حرف ‏{‏أم‏}‏ حرفَ عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضراباً عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداءٍ، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله ‏{‏فتمتعوا فسوف تعلمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيباً من حال أهل الشرك‏.‏ ويجوز أن يكون ما بعدها متصلاً بقوله ‏{‏بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 29‏]‏ فهو عطف ذَم على ذم وما بينهما اعتراض‏.‏

وحيثما وقعت ‏{‏أمْ‏}‏ فالاستفهام مقدَّر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام‏.‏ فالتقدير‏:‏ بل أأنزلنا عليهم سلطاناً وهو استفهام إنكاري، أي ما أنزلنا عليهم سلطاناً، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسؤول ليقر بنفي المسؤول عنه‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ ولما جعل السلطان مفعولاً للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا ‏{‏حتى تنزل علينا كتاباً نَقرؤه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏ ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏، أي تدل كتابته، أي كتب فيه بقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى ‏{‏أم ءاتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقدم ‏{‏به‏}‏ على ‏{‏يشركون‏}‏ للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أعيد الكلام على أحوال المشركين زيادة في بسط الحالة التي يتلقون بها الرحمة وضدها تلقياً يستوون فيه بعد أن مُيز فيما تقدم حال تلقي المشركين للرحمة بالكفران المقتضي أن المؤمنين لا يتلقونها بالكفران‏.‏ فأريد تنبيههم هنا إلى حالة تلقيهم ضد الرحمة بالقنوط ليحذروا ذلك ويرتاضوا برجاء الفرج والابتهال إلى الله في ذلك والأخذ في أسباب انكشافها‏.‏ والرحمة أطلقت على أثر الرحمة وهو المنافع والأحوال الحسنة الملائمة كما ينبني عنه مقابلتها بالسيئة وهي ما يسوء صاحبه ويحزنه فالمقصد من هذه الآية تخلق المسلمين بالخلق الكامل، ف ‏{‏الناس‏}‏ مراد به خصوص المشركين بقرينة أن الآية ختمت بقوله ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏.‏

وقدمت في هذه الآية إصابة الرحمة على إصابة السيئة عكسَ التي قبلها للاهتمام بالحالة التي جُعلت مبدأ العبرة وأصل الاستدلال، فقوله فرحوا بها‏}‏ وصف لحال الناس عندما تصيبهم الرحمة ليبنَى عليه ضده في قوله ‏{‏إذا هم يقنطون‏}‏ لما يقتضيه القنوط من التذمر والغضب، فليس في الكلام تعريض بإنكار الفرح حتى نضطر إلى تفسير الفرح بالبطر ونحوه لأنه عدول عن الظاهر بلا داع‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كما يفرحون عند الرحمة ولا يخطر ببالهم زوالها ولا يحزنون من خشيته، فكذلك ينبغي أن يصبروا عندما يمسهم الضر ولا يقنطوا من زواله لأن قنوطهم من زواله غير جار على قياس حالهم عندما تصيبهم رحمة حين لا يتوقعون زوالها، فالقنوط هو محل الإنكار عليهم وهذا كقوله تعالى ‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسَّه الشرُّ فيؤوس قنوط‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49‏]‏ في أن محل التعجيب هو اليأس والقنوط، وتقدم ذكر الإذاقة آنفاً‏.‏ والقنوط‏:‏ اليأس، وتقدم في سورة الحجر ‏(‏55‏)‏ عند قوله تعالى ‏{‏فلا تكن من القانطين‏}‏ وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏ لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسباباً لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات، ويتداركوا ما فات، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط‏.‏ وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يقنَطون‏}‏ بفتح النون على أنه مضارع قَنِط من باب حسِب‏.‏ وقرأه أبو عمرو والكسائي بكسر النون على أنه مضارع قَنط من باب ضرب وهما لغتان فيه‏.‏

ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنّة الله الشائعة في الناس‏:‏ من لحاق الضر وانفراجه، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق، فيسعَوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى، فجملة ‏{‏أو لم يروا أن الله يبسط الرزق‏}‏ الخ عطف على جملة ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها‏}‏ والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلاً لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها‏.‏

فالتقدير‏:‏ إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك‏.‏ والرؤية بصرية‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ تذييل، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة، ومُسبباتها كذلك، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها، كل على حسب استعداده‏.‏ وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها، وقد اشتمل الكلام قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس، وإصابة السوء إياهم، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس، وذكر بسط الرزق وتقديره‏.‏ وتضمن ذلك أن الفرح يُلْهِيهم عن الشكر، وأن القنوط يُلْهِيهم عن المحاسبة في الأسباب، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشاداً إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكراً من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيَّق عليهم الرزق، كما يُحِب أن يوسع عليه رزقه؛ فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله ‏{‏ذلك خير للذين يريدون وجه الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 38‏]‏ الآية، ويجوز أن يكون خطاباً لغير معيّن من المؤمنين‏.‏

والإيتاء‏:‏ الإعطاء‏.‏ وهو مشعر بأن المعطَى مال، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله ‏{‏أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وصيغة الأمر من قوله ‏{‏فئات‏}‏ مُجمل‏.‏ والأصل في محملها الوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب‏.‏ وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتِي‏.‏

وعن مجاهد وقتادة‏:‏ صلة الرحم أي بالمال فرض من الله عز وجل لا تقبل صدقة أحد ورَحمه محتاجة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ حق ذي القربى المواساة في اليُسر، وقول ميسور في العسر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ معظم ما قُصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «في المال حق سوى الزكاة» وللمساكين وابن السبيل حق، وبَيَّن أن حق هذين في المال اه‏.‏ أقول ولذلك قال جمع كثير‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقال فريق‏:‏ لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه‏.‏ قلت‏:‏ وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة‏.‏

و ‏{‏القربى‏}‏‏:‏ قُرب النسب والرحِم‏.‏ وتقدم عند قوله في سورة النساء ‏(‏36‏)‏‏.‏ والمسكين تقدم في قوله ‏{‏للفقراء والمساكين‏}‏ في سورة التوبة ‏(‏60‏)‏‏.‏ وابن السبيل‏:‏ المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي‏.‏

ووقع الحق مجملاً والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبي‏.‏ وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن‏.‏ وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة، وقرنت بالصلاة؛ فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنُصب ثم ضبطت بأصناف ونُصُب ومقاديرَ مخرجةٍ عنها‏.‏

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ فإن الزكاة حق المال‏.‏ وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب‏.‏ وقُصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك، فجُماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال، فدل على أن ذلك واجب لهم‏.‏ وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقاً؛ فحقُّ ذي القربى يختلف بحسب حاجته؛ فللغني حقه في الإهداء تودّداً، وللمحتاج حق أقوى‏.‏ والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق، وبقرينة مقابلته بقوله ‏{‏لتربوا في أموال الناس‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏ على أحد الاحتمالات في تفسيره‏.‏ وأما إعطاء القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ ‏{‏حقه‏}‏ وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها‏.‏

وحق المسكين‏:‏ سد خلته‏.‏ وحق ابن السبيل‏:‏ الضيافة كما في الحديث «جائزته يومٌ وليلة» والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حباً للمدحة، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقرباً إليهم، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِب عليكم إذا حَضَر أحدَكم الموتُ إنْ تَرك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف‏}‏ كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏180‏)‏‏.‏

ولذلك عقب بقوله هنا ذلك خير للذين يريدون وجه الله‏}‏ أي الذين يتوخّون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون‏.‏ والإشارة بقوله ‏{‏ذلك خير‏}‏ إلى الإيتاء المأخوذ من قوله ‏{‏فئاتتِ ذا القربى حقَّه‏}‏ الآية‏.‏

وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محلّ النظر‏.‏ وفيه أيضاً مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعْطَى من أهل الوجاهة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله‏.‏ والمراد‏:‏ أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه‏.‏

واسم الإشارة في قوله ‏{‏ذلك خير‏}‏ للتنويه بالمأمور به‏.‏ و‏{‏خير‏}‏ يجوز أن يكون تفضيلاً والمفضّل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تُذكر بعد في قوله ‏{‏وما ءاتيتم من رِبّاً‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر، أي ذلك فيه خيرٌ للمؤمنين، وهو ثواب الله‏.‏

وفي قوله وأولئك هم المفلحون‏}‏ صيغة قصر من أجل ضمير الفصل، وهو قصر إضافي، أي أولئك المتفردون بالفلاح، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر‏.‏ فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش‏.‏ فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة ‏{‏فئاتتِ ذا القربى حقه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 38‏]‏ الخ‏.‏ والواو اعتراضية‏.‏ ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم‏.‏ وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق‏.‏ فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه‏.‏

ومعنى ‏{‏ءاتيتم‏:‏‏}‏ آتى بعضكم بعضاً لأن الإيتاء يقتضي مُعطياً وآخذاً‏.‏

وقوله ‏{‏لتربوا في أموال الناس‏}‏ خطاب للفريق الآخِذِ‏.‏

و ‏{‏لتربوا‏}‏ لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالاً على أموالكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في أموال الناس في‏}‏ للظرفية المجازية بمعنى ‏(‏من‏)‏ الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحاً تحصل لكم من أموال الناس، فحرف ‏{‏في‏}‏ هنا كالذي في قول سَبْرةَ الفقعسي‏:‏

ونَشْرَبُ فِي أثمانها ونُقامر ***

أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا‏.‏ وتقدم بيانه عند قوله تعالى ‏{‏وارْزُقُوهُمْ فيها واكْسُوهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏5‏)‏‏.‏

ومِن‏}‏ في قوله ‏{‏من رباً‏}‏ وقوله ‏{‏من زكاة‏}‏ بيانية مبينة لإبهام ‏{‏مَا‏}‏ الشرطية في الموضعين‏.‏ وتقدم الربا في سورة البقرة‏.‏

وقوله ‏{‏فلا يربو عند الله‏}‏ جواب الشرط‏.‏ ومعنى ‏{‏فلا يربو عند الله‏}‏ أنه عمل ناقص عند الله غير زاككٍ عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير‏.‏ وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحق الله الربا ويربي الصدقات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا ‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏ وقوله ‏{‏لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏130‏)‏‏.‏ وهذا المعنى مروي عن السدّي والحسن‏.‏ وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى في‏}‏ من قوله ‏{‏في أموال الناس‏.‏

ويجوز أن يكون لفظ ربا‏}‏ في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصدَ الزيادة في أموالهم تقرباً إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والمَلَق‏.‏ ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئاً وإنما نفعه لأنفسهم‏.‏ ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى‏:‏ وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة ‏{‏لتربوا‏}‏ توكيداً لفظيّاً ليعلق به قوله ‏{‏في أموال الناس‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏وما ءاتيتم من زكاة‏}‏ الخ رجوع إلى قوله

‏{‏فئاتتِ ذا القربى حقه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 38‏]‏ الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة‏.‏

وجملة ‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏ جواب ‏{‏وما ءاتيتم من زكاة،‏}‏ أي فمؤتوه المضعفون، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب‏.‏ وضمير الفصل لقصر جنس المضعفين على هؤلاء، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دُنيوي زائل‏.‏ واسم الإشارة في قوله ‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏ للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح‏.‏ واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ءاتيتم‏}‏ بهمزتين، أي أعطيتم‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏أتيتم‏}‏ بهمزة واحدة، أي قصدتم، أي فعلتم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليَربوَ‏}‏ بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو ‏{‏ليربوَ‏.‏‏}‏ وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو جماعة بالاتفاق، ورسم المصحف سنة‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏لتُربوا‏}‏ بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله ‏{‏هل مِن شركائكم مَن يفعل مِنْ ذَلكم مِنْ شيء، وإدماجاً للاستدلال على وقوع البعث‏.‏ وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 34‏]‏ واطَّرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏، وسيأتي في الآيتين بعد هذه‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي‏.‏

و ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏ استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت ‏{‏مِن‏}‏ الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله ‏{‏مِن شيء‏.‏‏}‏ والمعنى‏:‏ ما من شركائكم من يفعل شيئاً من ذلكم‏.‏ ف ‏{‏من‏}‏ الأولى بيانية هي بيان للإبهام الذي في ‏{‏من يفعل،‏}‏ فيكون ‏{‏من يفعل‏}‏ مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره‏:‏ حصل، أو وجد، أو هي تبعيضية صفة لمقدر، أي هل أحد مِن شركائكم‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الثانية في قوله ‏{‏من ذلكم‏}‏ تبعيضية في موضع الحال ‏{‏من شيء‏.‏ ومن‏}‏ الثالثة زائدة لاستغراق النفي‏.‏

وإضافة ‏(‏شركاء‏)‏ إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر، وهذا جار مجرى التهكم، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معديكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصَعق وأنه قتله، فقال له خالد بن الصعق‏:‏ «مهلاً أبا ثور قتيلُك يسمع» أي القتيل بزعمك‏.‏ والقرينة قوله «يسمع» كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك‏.‏ والإشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وهي مصادر الأفعال المذكورة‏.‏ وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور‏.‏

وجملة ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية‏.‏ وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خَلَق ورزق ويُميت ويُحيي، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك، وهذه في قوة مقدمة هي كبرَى قياسسٍ وهو من الشكل الثاني، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله‏.‏ وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني‏.‏ ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم، ودليل المقدمة الكبرى العقل‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تشركون‏}‏ بفوقية على الخطاب تبعاً للخطاب في ‏{‏ءاتيتم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن‏.‏ والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم الآيات‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏، فلما طولبوا بالإقرار على مَا رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أُنكِرَ عليهم عدمُ النظر في تلك الآثار، أُتبع ذلك بما أدَّى إليه طريق الموعظة من قوله ‏{‏هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة، والتذكير بدلائل الوحدانية ونِعَم الله تعالى، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقاً مستقراً إدراكه في الفطرة البشرية، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثلَ ما كسبت أيدي أولئك‏.‏

فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم‏.‏ ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله ‏{‏وإذا مسّ الناسَ ضُر دَعوا ربهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏ الآية، فهي خبر مستعمل في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المُخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك ‏{‏لعلهم يرجعون‏.‏‏}‏ فالإتيان بلفظ الناس في قوله ‏{‏بما كسبت أيدي الناس‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال «بما كسبت أيديهم»‏.‏ فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصارِ أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سَوْق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب ‏{‏غُلِبَتتِ الرومُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 2‏]‏‏.‏

فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسِّ الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة ‏{‏وإذا مسّ الناسَ ضرّ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏ إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض‏.‏ ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمةً وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضاً ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح‏.‏

و ‏{‏الفساد‏:‏ سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودل قوله‏:‏ في البر والبحر‏}‏ على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها‏.‏ ثم التعريف في ‏{‏الفساد‏:‏‏}‏ إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برِّها وبحرِها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس بدليل قوله ‏{‏ليذيقهم بعضَ الذي عمِلوا لعلهم يرجعون‏}‏‏.‏

وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي مَوتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض‏.‏

وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالبر البَوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال‏:‏ إن العرب تسمي الأمصار بحراً‏.‏ قيل‏:‏ ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول‏:‏ ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه‏.‏ يعني بالبحرة‏:‏ مدينة يثرب وفيه بُعد‏.‏ وكأنَّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه‏.‏ وقد ذكر أهل السير أنَّ قريشاً أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعِظام، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان‏.‏

وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله بما كسبت أيدي الناس‏}‏ للعوض، أي جزاء لهم بأعمالهم، كالباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، ويكون اللام في قوله ‏{‏ليذيقهم‏}‏ على حقيقة معنى التعليل‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالفساد‏:‏ الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله ‏{‏الله الذي خلقكم ثم رزقكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏، فتكون الجملة إتماماً للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيهاً على أن الله خلق العالم سالماً من الإشراك، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم‏.‏ وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ إني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وأمَرْتهم أن يشركوا بي ‏"‏ الحديث‏.‏

فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى‏:‏ ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط، ويكون الباء في قوله ‏{‏بما كسبت أيدي الناس‏}‏ للسببية، ويكون اللام في قوله ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا‏}‏ لامَ العاقبة، والمعنى‏:‏ فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجُعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام مُحكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة، فكانت وشائجَ لأمثالها‏:‏

«وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه»

فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4 6‏]‏، وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع‏.‏ وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفياً‏.‏

ومحمل صيغة فعل ‏{‏ظهر‏}‏ على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة‏.‏ وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وأيَّاً ما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا‏}‏، وأن الله يقدر أسبابه تقديراً خاصاً ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم‏.‏ وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ موصولة، وحذف العائد من الصلة، وتقديره‏:‏ بما كسبته أيدي الناس، أي بسبب أعمالهم‏.‏ وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاماً‏.‏ ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئِلَ‏:‏ أي الذنب أعظم‏؟‏ «أن تدعُو لله نِدّاً وهو خلقك» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وأنْ لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ويجري حكمُ تعريف ‏{‏الناس‏}‏ على نحو ما يجري في تعريف ‏{‏الفساد‏}‏ من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم ‏{‏الناس‏}‏ عليهم‏.‏

والإذاقة‏:‏ استعارة مكنية؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيُحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم‏.‏ ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه‏.‏ وفي هذا تهديد إن لم يُقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏‏.‏

والعدول عن أن يقال‏:‏ بعض أعمالهم إلى ‏{‏بعضَ الذي عملوا‏}‏ للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدورها منهم‏.‏

والرجاء المستفاد من ‏(‏لعلَّ‏)‏ يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يُرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لا يَرْون أنهم يُفْتَنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 126‏]‏‏.‏

والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأنَّ الذي عصى ربه عبد أبق عن سيّده، أو دابة قد أبدت، ثم رجع‏.‏ وفي الحديث «الله أفرحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال‏:‏ أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده»‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليذيقهم‏}‏ بالياء التحتية، أي ليذيقهم الله‏.‏ ومعاد الضمير قوله ‏{‏الله الذي خلقكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لما وعظهم بما أصابهم من فساد الأحوال ونبههم إلى أنها بعض الجزاء على ما كسبت أيديهم عرَّض لهم بالإنذار بفساد أعظم قد يحلّ بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء في الإشراك فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لأن كثيراً من المشركين قد اجتازوا في أسفارهم بديار تلك الأمم كما قال تعالى ‏{‏وإنكم لتَمُرُّون عليهم مُصْبِحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137 138‏]‏‏.‏ فهذا تكرير وتأكيد لقوله السابق ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏، وإنما أعيد اهتماماً بهذه العبرة مع مناسبة قوله ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والعاقبة‏:‏ نهاية الأمر‏.‏ والمراد بالعاقبة الجنس، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل، ولكل قوم عاقبة‏.‏

وجملة ‏{‏كان أكثرهم مشركين‏}‏ واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏كيف كان عاقبة الذين من قبل‏}‏، أي سبب تلك العاقبة المنظورة هو إشراك الأكثرين منهم، أي أن أكثر تلك الأمم التي شوهدت عاقبتُها الفظيعة كان من أهل الشرك فتعلمون أن سبب حلول تلك العاقبة بهم هو شركهم، وبعض تلك الأمم لم يكونوا مشركين وإنما أصابهم لتكذيبهم رسلهم مثل أهل مدين قال تعالى‏:‏ ‏{‏أكُفَّارُكُم خيرٌ من أولئكم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته، ووعد بأن يأتيه النصر كقوله ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيَك اليقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏، مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدّين القيّم، أي الحق‏.‏ وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله ‏{‏فأقم وجهك للدّين حنيفاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏، فإن ذلك لما فُرع على قوله ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فُرع أيضاً نظيره هذا على قوله ‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 42‏]‏ وقد تقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏فأقم وجهك للدّين‏}‏ وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏

و ‏{‏القيّم‏}‏ بوزن فَيْعل، وهي زنة تدل على قوة ما تصَاغ منه، أي‏:‏ الشديد القيام، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبَّه بالقيام، وضده يشبه بالعِوج، وقد جمعهما قوله تعالى ‏{‏ولم يجعل له عِوَجاً قيِّماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 1، 2‏]‏ فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيّم‏.‏ وبين ‏{‏أقم‏}‏ و‏{‏القيم‏}‏ محسن الجناس‏.‏

والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراضٌ عن صريح خطاب المشركين‏.‏ والمقصود التعريض بأنهم حَرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة‏.‏ يؤخذ هذا التعريض من أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك ‏{‏يومئذ يصَّدَّعون‏}‏ الآية‏.‏

والمردّ‏:‏ مصدر ميمي من الردّ وهو الدفع، و‏{‏له‏}‏ يتعلق به، و‏{‏من الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏يأتي‏}‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية‏.‏ والمراد ‏(‏باليوم‏)‏ يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يردّه عن المجازَيْن به رادّ لأنه آت من الله‏.‏ والظاهر أن المراد به يوم بدر‏.‏

و ‏{‏يصدعون‏}‏ أصله يَتصَدَّعون فقلبت التاء صاداً لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام‏.‏ والتصدع‏:‏ مطاوع الصدع، وحقيقة الصدع‏:‏ الكسر والشق، ومنه تصدع القدح‏.‏

والمراد باليوم‏:‏ يوم الحشر‏.‏ والتصدع‏:‏ التفرق والتمايز‏.‏ ويكون ضمير الجمع عائداً إلى جميع الناس، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى ‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحْبَرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآمرة فأولئك في العذاب محضرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 14 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي ‏{‏فأقم وجهك للدّين القيم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏، إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فبين ذلك بأنهم لا يَضرون بكفرهم إلا أنفسهم، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله ‏{‏فعليه كفره‏}‏ فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين، ولهذا ابتدئ بذكر حال من كَفر ثم ذُكر بعدَه ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏‏.‏ واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضَرّاً على الكافر، لأن ‏(‏عَلى‏)‏ تقتضي ذلك في مثل هذا المقام، كما اقتضى اللام في قوله ‏{‏فلأنفسهم يمهدون‏}‏ أن لِمجرورها نفعاً وغنماً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ وقال توبة بن الحُمَيِّر‏:‏

وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها

وأفرد ضمير ‏{‏كفره‏}‏ رعياً للفظ ‏{‏مَن‏}‏‏.‏ وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضارّ في الكفر على الكافر وأنه لا يَضُر غيره، مع تمام الإيجاز، وهو وعيد لأنه في معنى‏:‏ من كفر فجزاؤه عقاب الله، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة ‏(‏على‏)‏ من قوله ‏{‏فعليه كفره‏}‏ وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحاً بقوله ‏{‏ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله‏}‏‏.‏

وأما قوله ‏{‏ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون‏}‏ فهو بيان أيضاً لما في جملة ‏{‏فأقم وجهك للدّين القيّم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏ من الأمر بملازمة التحلّي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب بالترغيب فهو كالتكملة للبيان‏.‏ وإنما قوبل ‏{‏من كَفر‏}‏ ب ‏{‏من عَمِل صَالِحاً‏}‏ ولم يقابل ب ‏(‏مَن ءامن‏)‏ للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين‏.‏ فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتّكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة‏.‏ وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يَقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله تعالى قبل هذه الآية‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة فأولئك في العذاب مُحضَرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 14 16‏]‏ حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان‏.‏

وتقديم ‏{‏فلأنفسهم‏}‏ على ‏{‏يمهدون‏}‏ للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص‏.‏

و ‏{‏يمهدون‏}‏ يجعلون مِهاداً، والمهاد‏:‏ الفراش‏.‏ مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطئ فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه‏.‏

وتقديم ‏{‏لأنفسهم‏}‏ على ‏{‏يمهدون‏}‏ للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة‏.‏

وروعي في جمع ضمير ‏{‏يمهدون‏}‏ معنى ‏{‏مَن‏}‏ دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة‏.‏

ويتعلق ‏{‏ليجزي الذين ءامنوا‏}‏ ب ‏{‏يمهدون‏}‏ أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله‏.‏ وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله ‏{‏الذين ءامنوا وعملوا الصالحات‏}‏ للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏‏.‏

وقد فهم من قوله ‏{‏مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ أن الله يجازيهم أضعافاً لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏ المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فحصل بقوله ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏ تقرير بَعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله ‏{‏ليجزي الذين ءامنوا‏}‏ دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية‏.‏

وقوله ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏ يدل بتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلاً وأن العقاب مُعيّن للكافرين عدلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة ‏{‏ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة كان لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضّحة المبينة‏.‏ والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يُقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج إلى المطر‏.‏

والمبشرات‏:‏ المؤذنة بالخير وهو المطر‏.‏ وأصل البشارة‏:‏ الخبر السارّ‏.‏ شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرّة‏.‏ وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏25‏)‏، وقوله ‏{‏وإذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى‏}‏ في سورة النحل ‏(‏58‏)‏، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث يمطر‏.‏ وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ وعلى ‏{‏كونها لواقح‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏22‏)‏‏.‏

وقوله ‏{‏وليذيقكم‏}‏ عطف على ‏{‏مُبشرات‏}‏ لأن ‏{‏مبشرات‏}‏ في معنى التعليل للإرسال‏.‏ وتقدم الكلام على الإذاقة آنفاً‏.‏

و ‏{‏من رحمته‏}‏ صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل ‏{‏ليذيقكم‏}‏ أي‏:‏ مذوقاً‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، ورحمة الله‏:‏ هي المطر‏.‏

وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه، وتقدم في آية سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

والتقييد بقوله ‏{‏بأمره‏}‏ تعليم للمؤمنين وتحقيق للمِنة، أي‏:‏ لولا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها‏.‏ وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على ذلك قوله ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ وقد تقدم ذلك في سورة الحج ‏(‏36‏)‏، وتقدم هنالك معنى ‏{‏لتبتغوا من فضله‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذه جملة معترضة مستطرَدة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعُقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح، وبجعل الله الفلكَ لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، وكان في تلك النقمة نصر المؤمنين، أي نصر الرسل وأتباعهم؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح‏:‏ ‏{‏ربّ انصرني بما كذبون‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏26‏)‏، وقوله تعالى هنا‏:‏ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ والواو اعتراضية وليست للعطف‏.‏

والانتقام‏:‏ افتعال من النَّقْم وهو الكراهية والغضب، وفعله كضرب وعلم قال تعالى ‏{‏وما تنقِم منا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏‏.‏ وفي المثل‏:‏ مثَله كمثل الأرقم إن يُقتل يَنقَم بفتح القاف وإن يترك يَلْقم‏.‏ والانتقام‏:‏ العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنقم منا‏}‏ وقوله ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏136‏)‏‏.‏

وكلمة ‏{‏حقاً علينا‏}‏ من صيغ الالتزام، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏حقيقٌ عليّ أن لا أقول على الله إلاَّ الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏، وهو محقوق بكذا، أي‏:‏ لازم له، قال الأعشى‏:‏

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ***

فإن وعد الصادق حق‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعداً علينا إنّا كُنّا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأُدرج تحت ذكر النصر معنَى الانتصار، وأدرج ذكر الفريقين‏:‏ فريق المصدقين الموعود، وفريق المكذبين المتوعَّد، وقد أُخلي الكلام أولاً عن ذكرهما‏.‏

وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله ‏{‏حَقّاً‏}‏ فيكون في ‏{‏كان‏}‏ ضمير يعود على الانتقام، أي وكان الانتقامُ من المجرمين حقاً، أي‏:‏ عدلاً، ثم يستأنف بقوله ‏{‏علينا نصرُ المؤمنين‏}‏ وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله إيجاباً فراراً من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو وقف ضعيف، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم‏.‏